تبوَّأ الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي مكانة عالية بين الأئمة المحدثين أصحاب المصنفات، ويكفيه رفعةً وفضلاً أنه كان من خواص تلامذة الإمام البخاري.
وقد حَفِلَ كتابه الموسوم "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل" بالفوائد الحديثية الجمّة، وختمه بذكر منهجه في تخريج الحديث، إضافة إلى جزء في قواعد علم "علل الحديث".
وصار ذلك الجزء مرجعا ونبراسا لكل من أراد الكتابة في "علل الحديث"، وغدا "الجامع الصحيح" أو "سنن الترمذي" - كما اشتُهر - ضمن كتب الصحاح أو السنن، والتي عرفت بالكتب الستة، وسنلقي الضوء في عُجالة على منهجه في سننه.
منهج الإمام الترمذي المتعلق بالأسانيد
أولا: شروطه في أسانيد سننه:
1- عمل العلماء بالحديث:
كان المعتمد عند الإمام الترمذي أن يخرج الأحاديث التي عمل بها العلماء، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمولٌ به، وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين.. "، وليس معنى هذا أنه استقصى جميع الأحاديث المعمول بها.
فهو لم يلتزم أن يذكر كل حديث معمول به؛ لأنه بنى كتابه على الاختصار، حيث قال: "وقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار لما رجونا فيه من المنفعة"، ومع ذلك فقد أورد أحاديث معلولة من أجل أن يبيّن علّتها ويكشف موجبات ردها، وأخرج أحاديث شديدة الضعف لأنها تُتمِّم فهم الصحيح أو تتقوى بالصحيح.
2- الرجال (الرواة):
لم يحتجّ الإمام الترمذي بأحاديث الراوي شديد الضعف، وإذا أورد له حديثا فإنه يبيِّنه بحسب اجتهاده، وبذلك يكون شرطه أبلغ من شرط الإمام أبي داود، لأنه ينبِّه على هؤلاء الضعفاء ولا يسكت عنهم.
ثانيا: منهجه في التعليق على الأحاديث والحكم عليها:
1- الحكم على الأحاديث:
اعتاد الإمام الترمذي ذكر حكمه على الحديث بعد نهاية لفظ الحديث، وكانت له مصطلحات خاصة في ذلك، وكان أوّل من عرّف الحديث الحسن بأنه: "كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتّهم بالكذب.
ولا يكون الحديث شاذًّا ويُروى من غير وجه نحو ذلك"، والحسن عنده على أنواع، منها: الحسن الصحيح، والحسن الغريب، ومن أمثلة ما عقّب به بعد أحد الأحاديث قوله: "هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة".
2- توضيح العلل وذكرها:
أكثر الإمام الترمذي من التعرض لذكر العلل التي تقدح في صحة الحديث، بل إنه أفرد جزءا في آخر كتابه لذكر أنواع علل الحديث، وكان يذكر أيضا ترجيح ما فيه خلاف بين الرفع والوقف أو الإرسال والوصل.
ثالثا: منهجه في ترتيب أحاديث سننه:
1- الترتيب على أبواب الفقه:
رتّب الإمام الترمذي كتابه على أبواب الفقه، لأن الأحاديث التي أوردها يغلب عليها أحاديث الأحكام، ولذا سُ ـ مّيَ بالسنن، ولكنه أورد في آخر جامعه أحاديث صفة القيامة والتفسير والمناقب.
2- ترتيب الأحاديث في الباب:
اعتمد الإمام الترمذي تقديم الأحاديث المعلولة، حيث كان يبدأ بالأحاديث الغريبة المعلولة غالبا، ثم يذكر الأحاديث الصحيحة، وقصده بذلك أن يبيّن ما فيها من العلل، ثم يبيّن الصحيح في الإسناد، وكان ذلك أغلبيٌّ، أي أنه قد يبدأ بالحديث الصحيح ثم يُتبعه حديثا آخر مثله في الصحة أو دونه.
رابعا: منهجه في غير الموصول (المرسل والمنقطع):
لم يشترط الإمام الترمذي على نفسه أن يُخرج الموصول فقط؛ ولذا أخرج بعض الأحاديث المرسلة والمنقطعة، وهي عنده على نوعين:
1- مرسل التابعي:
وهو المشهور عند المحدثين في استعمال المرسل.
2- المنقطع:
حيث يُطلق الإمام الترمذي عدة عبارات تفيد الانقطاع، فأحيانا يقول: "مرسل"، وأحيانا يستعمل اللفظ الشائع لدى المحدثين وهو "المنقطع"، وكثيرا ما يقول: "إسناده ليس بمتصل".
خامسا: منهجه في الآثار الموقوفة:
كان الإمام الترمذي يبيّن مذاهب الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بعبارات صريحة، ويذكر الحديث الموقوف ويقول: "حديثٌ موقوف"، أو يقول: "فلانٌ لم يرفعه"، وكان يورد الموقوف أحيانا يقوِّي به الحديث الضعيف فيصير حسنا.
سادسا: منهجه في تكرار الحديث:
تجنّب الإمام الترمذي التكرار، فلم يتكرر عنده إلا القليل من الحديث، في مواضع قليلة، حتى لا يَعرف الناظر فيه ذلك إلا بعد التأمل والبحث، ولكنه في تكراره قد يُراعي المغايرة بفائدة جديدة في متن الحديث أو إسناده، وقد لا يُراعي ذلك.
سابعا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة – ومنهم الإمام الترمذي – إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف:
جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في سننه: "حدثنا قُتيبة وهنّاد ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا وكيع.. . " الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل:
جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل - أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها، وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عند الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار:
إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام الترمذي في سننه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة إنما صحّ لأنه رُوي من غير وجه".
ثامنا: منهجه في الجرح والتعديل وتعريف الرواة:
اعتاد الإمام الترمذي ذكر شيء من تعديل بعض الرواة أو تجريحهم كلما دعت حاجةٌ إلى ذلك، وقد يذكر شيئاً من التعريف ببعض الرواة كبيان أن فلانا من الصحابة أو التابعين، أو أنه كوفيٌّ أو بصريٌّ، أو بيان تاريخ مولد أو وفاة أو اختلاط راوٍ معيّن، وغير ذلك مما ينفع في توضيح اتصال أو انقطاع بين راويين، أو تمييز راو من غيره.
ومن أمثلة ما أورده في الجرح والتعديل بعد إيراده للحديث قوله: "وابن لهيعة ضعيفٌ عند أهل الحديث، ضعّفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قِب ـ لِ حفظه"، ومثال ما أورده لتوضيح انقطاع بين راويين قوله: "قال ابن عيينة: لم يسمع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل".
منهج الإمام الترمذي المتعلق بالمتون:
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
كان الغالب على تراجم أبواب السنن (التراجم الظاهرة)، وقلّما تجد فيها تراجم استنباطية أو مرسلة، ولكن الإمام الترمذي نوّع بين المسالك التي استخدمها في تلك التراجم، وينتظم إيضاح ذلك فيما يلي:
1- التراجم الظاهرة:
هي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- الاستفهام، مثل: "بابٌ هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل؟ ".
- الصيغة الخبرية العامة، مثل: "باب ما جاء في السواك".
- الصيغة الخبرية الخاصة، مثل: "باب ما جاء في أن مسح الرأس مرة".
- الاقتباس من لفظ الحديث، مثل: "باب لا تُقبل صلاة بغير طُهور".
2- التراجم الخفية (الاستنباطية):
هي أن يأتي في لفظ الترجمة احتمالٌ لأكثر من معنى، فيعيّن أحد الاحتمالين بما يذكر تحتها من الحديث، أو أن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، ، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- كون الترجمة أعمُّ من ال ـ مُترجم له، مثل قوله: "باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف"، ثم أخرج حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ.. الحديث، فالترجمة هنا أعمّ، لأن فيها ذِكر القيء والرعاف، وليس في الحديث إلا ذكر القيء.
- كون الترجمة أخصّ من المترجم له، مثل قوله: "باب ما جاء في السهو عن وقت صلاة العصر"، ثم أخرج حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه)، فالترجمة هنا أخصّ، لأن فيها ذكر السهو فقط، والحديث فيه ذكر الفوت، وهو أعم من الفَوت بالسهو فقط.
- تطابق الترجمة مع أحاديث الباب بطريق الاستنتاج لعلاقة اللزوم، مثل قوله: "باب ما جاء متى يؤمر الصبيّ بالصلاة"، ثم أخرج حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه مرفوعا: (علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر)، ويلزم من هذا الحديث أن يكون أمر الصبي بالصلاة بين السابعة والعاشرة، أي بعد تعليمه وقبل ضربه إذا لم يمتثل الأمر.
3- التراجم المرسلة:
لم يُكثر الإمام الترمذي منها، وأوردها مرات قليلة، مثل قوله: "باب منه آخر. حدثنا هناد، حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق.. " الحديث.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد ومختلف الحديث:
اعتنى الإمام الترمذي بالألفاظ الغريبة، واهتم ببيانها وإيضاحها، وذكر بعض الفوائد واللطائف بعد إيراد الأحاديث، ومن ذلك:
1- غريب الحديث:
شرح الإمام الترمذي كثيرا من الألفاظ الغريبة واعتنى بإيضاحها، ومن ذلك قوله: "ومعنى قوله فان ـ خَ ـ ـ ـ نستُ يعني تنحّيت عنه".
2- ذكر الناسخ والمنسوخ:
كان الإمام الترمذي يصرِّح أحيانا بأن الحديث منسوخ، أو بأنه الآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتفي أحيانا أخرى بتأخير الناسخ.
3- ذكر مختلف الحديث:
كان الإمام الترمذي يبين مختلف الحديث، ويحلُّ بعض ما أُشكل منه، ومن ذلك كلامه عن ليلة القدر: "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان".
ثم قال: "قال الشافعي: كأن هذا عندي - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجيب على نحو ما يُسأل عنه. يقال له: نلتمسها في ليلة كذا، فيقول: التمسوها في ليلة كذا".
المصدر: موقع إسلام ويب